دعت مؤسسة رؤيا جوستين هاردي، المؤلفة والإخصائية في علم النفس المتخصصة في علاج الصدمات، للتحدث في ندوة حول الفن والصراع في العراق، وذلك بمناسبة افتتاح جناح العراق في الدورة السادسة والخمسين لبينالي فينيسيا. وقد أسست هاردي مشروعا مبتكرا في مجال الصحة العقلية باسم “مداواة كشمير”، كما كتبت المقالات عن جنوب آسيا على مدار أكثر من عشرين عاما. وبوصفها متخصصة في الصحة العقلية، تحدثت عن الفن وعلاقته بالصراع والضرر النفسي والعنف.
أنا لا أنتمي إلى عالم الفن، لكنني أشاهد ما يحدث للفن والفنانين في مواجهة الحرب والعنف. وقد وجدت أن “كل مستقبلات العالم”، التيمة الأساسية لهذا البينالي، و”الجمال غير المرئي”، تأويلها في الجناح العراقي، كلاهما موفق على على نحو كبير في عرض فكرة الفن وسط الصراع.
العنف يدمر إحساسنا بالمستقبل. ولكي نستطيع البقاء على قيد الحياة نلجأ إلى تصميمنا التطوري العبقري، ونغلق العقل أمام أي شيء عدا البقاء: آلية “العراك والفرار”. الحيز المعقد الذي يسكنه الفن خانق. والناس ممتلئون برضوض نفسية وجسدية. كل شيء يمحى- أحيانا على نحو عشوائي، وأحيانا على نحو ممنهج.
هذه اللوحة البيضاء يمكن أن تتحول إلى عمل استثنائي، لكن ما يكمن بداخلنا- فكرة الجمال غير المرئي هذه- هو، من خبرتي، أمر شديد الفردانية. وفي خلوة أفكارنا الحرة تلك، نستطيع استعادة أنفسنا.
العنف بطبيعته مدمر للذات. إنه يثير السؤال الوجودي الأكبر: ما هو المغزى؟ كيف يمكن أن يكون ثمة مغزى في مواجهة هذا الخراب الهائل؟ الدمار يدمر الإحساس بالمستقبل، ويدمر الأمل.
وهكذا، يبرز الوسيط الفني بوصفه أحد الأماكن التي نستطيع فيها البدء في البحث عن ذواتنا من جديد.
عندما يحاول الأطفال إضفاء معنى على الأشياء التي تتجاوز إدراكهم، تجدهم عادة يحاولون تكييفها داخل السياق الذي يعرفونه ويفهمونه. عندما تضع ورقة أمام طفل يمر بتجربة عنيفة، لن تجده يرسم هذا العنف بالضرورة. بل الأرجح أن يرسم ما هو مألوف بالنسبة له، أو بالأحرى ما يجعله يشعر بالأمان. في مجال عملي، أرى الأطفال يرسمون جبال الهيمالايا، وبحيرات كشمير، ومراكب، وأشجار، وأزهار، وبساتين تفاح. سيرسمون بيتا يحبون أن يعيشوا فيه- بسقف آمن وجدران تحميهم، بنوافذ سليمة. نفوسهم تحاول الوصول إلى مكان تشعر فيه بالأمان مجددا. لن يشرع الطفل حقا في تصوير أوجه العنف التي لاقاها إلا بعد أن يتوطد شعوره بالأمان.
لكن ماذا عن فكرة الفن وسط الصراع، هل هي تمثل تناقضا في حد ذاتها؟ هل يمكن للفن أن يتواجد أصلا وسط الصراع؟ أم أن ما نراه ليس إلا مجموعة من الأفكار المفروضة التي تستخدم كوسيلة للتلاعب أو كأداة للدعاية؟ أنا لست فنانة حاولت أن تبدع في مواجهة العنف، لكن ما رأيته هو فنانين نزع عنهم لقب الفنان المحترف. إنهم مغروسون في آلة الحرب، كخدام للحكومة ربما، أو في أي دور يتيح لهم البقاء. والمكان الذي يمكن لهم أن يسكنوه مع فنهم يصبح مكانا للسرية، ركنا صغيرا من للحرية والخصوصية: ربما سجين في أحد معسكرات الاعتقال البولندية يدق لحنا لباخ على قطعة خشب، إحدى القواطع التي كان عليه حملها من أجل بناء سكة حديدية، وفورا تتحول الخشبة الصماء إلى لوحة مفاتيح بيانو، عقله حر في هذه اللحظة؛ أو ربما طفل في مخيم الزعتري في الأردن، أو في مخيم في العراق، أو سوريا، أو غيرها، يرسم بيتا، لأن هذا البيت- ببساطة- يمثل مكانا، لحظة يمكنه فيها أن يبدأ في استعادة نفسه
لا أرتاح لبعض الأفكار حول دور الفن في تمثيل الحرب، لأن المسألة تكمن في بالفنان الفرد وأفكاره. فهل لدينا الحق لفرض أفكار بعينها عن الحرب بوصفها ممثلة لمجتمعات أو جماعات كاملة من البشر؟
إنني أرى الفن وهو يستخدم كنقطة لإعادة التواصل، كجسر، بين دمار الذات وبداية استعادة إحساس ما بالمستقبل، بالأمل. ويبدو أنه في مثل تلك المحاولة لاستعادة الروح، يولد الفن من جديد.