مياه تتقاطر من صنبور، وزوجة تشيخ في الليل، وأم تغني تهويدة عراقية، وطبول وأغنياتُ حدادٍ إحاءً لذكرى وفاة الإمام الحسين. أصوات تتراوح ما بين العادي والمقدس، ولكنها بالنسبة لمن قاموا بتسجيلها خلال الأسبوع الماضي تمثل صورة لبغداد، في ماضيها وفي حاضرها.
دعونا العالم المتخصص في الموسيقى العرقية رولف كيليوس إلى تأسيس وإطلاق مشروع الفن الصوتي “بغداد واحد”. وتم من خلال ذلك المشروع تسجيل أصوات المدينة المعاصرة بوصفها تأملات شخصية لبغداد وفي لتراثها الموسيقي. فكانت تلك هي ورشة العمل الأولى ضمن سلسلة مختبرات رؤيا Ruya Labs التي سنقوم باستضافتها بصورة منتظمة على مدار العام، بمشاركة الفنانين و طلاب الفن في بغداد. وقد أقيمت في ستوديو مدينة الفن المستقل للإنتاج السينمائي والموسيقي.
من خلال عمله مع الموسيقيين ومقتني التسجيلات الموسيقية والطلبة في بغداد، عرض رولف كيليوس أمثلة لعمله الميداني في توثيق الموسيقى الطقوسية والفولكلورية في جنوب آسيا والخليج. وتناقشوا في أهمية توثيق وأرشفة التراث الموسيقي العراقي. ولاحظ أحد المشاركين أن الموسيقى البحرية، أي التراث الموسيقي لصيادي السمك وصيادي اللؤلؤ على طول ساحل الخليج، حاضرةٌ أيضا في منطقة الخليج العربي بالقرب من البصرة في جنوب العراق وإن لم يتم تسجيل نماذج منها على الإطلاق.
يعتبر المقام العراقي ـ القائم على الشعر والارتجالات الصوتية ـ جزءا من التراث الثقافي غير المادي الخاضع لحماية اليونسكو. غير أن غياب البنية الأساسية الثقافية واستمرار هجوم المتعصبين دينيا على الموسيقى يهدد باختفاء هذا التراث تدريجيا. فضلا عن أن أغلب الأرشيف الموسيقي والصوتي العراقي ضاع عند نهب أرشيف الإذاعة العراقية سنة 2003، الذي كان أكبر أرشيف لأسطوانات الفونغراف والموسيقى التراثية في العراق كله.
و برغم ذلك، استطاع المقتنون العراقيون، ومن بينهم حكمت البيضاني صاحب ستوديو مدينة الفن، أن يستردوا أقساما من ذلك الأرشيف ضمن مجموعاتهم الخاصة. ولقد نصح رولف كيليوس الذي يقوم بالإشراف على أرشيف رقمي لموسيقى الخليج لحساب المكتبة البريطانية في لندن ـ المقتنين العراقيين ممن حضروا ورشة العمل بالطرق المثلى للحفاظ على اسطواناتهم وأرشفتها. وبالمشاركة مع فلاح شاكر مدير عام العلاقات الثقافية بالحكومة العراقية ناقشت المجموعة إمكانيات إعادة بناء الأرشيف بالاعتماد على خبرة رولف كيليوس بالأراشيف العامة والمتاحف.
وبجانب الحفاظ على موسيقى الماضي، نظرت الورشة أيضا في أصوات الحاضر. لقد وصف الرسام الطليعي لويجي روسولو ـ في مطلع القرن العشرين ـ “ثورة في الموسيقى” ضمن بيان المستقبليين، متحدثا عن موسيقى يقود فيها ضجيج الآلات “وأجواء المدن الكبرى النابضة” إلى إبداع قالب موسيقي جديد يكون “صوت الضجيج”. ولقد طولب المشاركون في الورشة بتسجيل أصوات المدينة التي تعبِّر عما يعنيه لهم العراق.
وذلك يعني، بالنسبة لكيليوس، أسواق بغداد القديمة، أو احتفالات عاشوراء بما فيها من مراثي للإمام الحسين، في منطقة الكاظمية. وسوف تشكل هذه الأصوات، علاوة على الأصوات التي سبقت الإشارة إليها، جزءا من مجموعة أكبر يعتزم المشاركون إطلاقها عما قريب، بهدف إقامة خريطة صوتية معاصرة لبغداد.
وسوف تعمل مختبرات رؤيا خلال العام في بغداد على دعم الإبداع، وحرية التعبير، والتعاون الدولي بين الفنانين والعاملين في الثقافة.