العنوان: رسالة من فيليب فان كاوتيرن الى تمارا جلبي

الأشياء “غير المرئية” هي تلك الأشياء التي لم تظهر إلى حيز الوجود من الأساس. والأشياء “غير المرئية” هي أيضا تلك الأشياء الموجودة، ولكنها تظل في الخفاء، عن قصد أو بغير وعي، نتيجة لمجموعة من الأسباب الجيو-سياسية والثقافية. ويعاني الفنانون العراقيون من خفاء مزدوج. فمن المنظور الغربي، ثمة جهل تام بتاريخ الفن في العراق في الآونة الأخيرة. فهل سمعنا، مثلا، عن “مدرسة بغداد للفن الحديث” في الخمسينيات، وهي مدرسة مهمة؟ ناهيك عن فقر المعرفة فيما يتعلق بما يحدث على المستوى الفني حاليا. أما “الخفاء” في البلد نفسه فيرجع إلى تجاهل واضح للإمكانيات الكامنة في المشهد الفني المحلي. فإذا أضفنا إلى ذلك غياب بنية تحتية لائقة والغلبة الواضحة للأفكار الفنية المتشددة، أدركنا أن إمكانية صناعة فن “مرئي” في العراق غير موجودة تقريبا.

مما لا شك فيه أن نحو ثلاثين عاما من الدكتاتورية، والحرب، والعنف، والإرهاب لا تجعل الأمر أكثر سهولة. فكم ظل الفنان مجرد أداة، وجه تجميلي لنظام سياسي لا إنساني؟ كان على الفنان أن يعمل كموظف، يضفي نوعا من  ذوق الرسمي و الكياسة على واقع ترتكب فيه فظاعات ضد الإنسانية. والفترة الوجيزة من التفاؤل والإيمان بالتغيير بعد موت الديكتاتور سرعان ما انتهت وحلت محلها فوضى الحرب والعنف الطائفيين. إن المشهد الصوتي في البلاد يتكون من تفجيرات، سيارات مفخخة، قناصة، انتحاريون يفجرون أنفسهم، وغير ذلك. وعلى أنقاض البلاد، كان على الفنانيين أن يشيدوا رؤيتهم. كانت عقولهم المحطمة- وعقول الأجيال القادمة- هي اللبنة الأساسية لتطوير الأفكار الفنية.

15737574827_9b4e83c1cd_k

أكثر من تسعين بالمائة من الفنانين في العراق يصنعون “أشياء جميلة”. مازالت الصور الزيتية وأعمال النحت تتولد عن فكرة نمطية عن الجمال، تساوي، في الأغلب، بين ما يسمى “الحاجة إلى تطوير لغة فنية عراقية مستقلة”، وبين المحاكاة العتيقة لأساليب غربية قديمة. ويمضي الحنين إلى الأزمان الماضية برفقة فكرة رومانتيكية عن الفنان. لا أستطيع إلا أن أحترم هذه الغالبية من الفنانين؛ لا أستطيع إلا أن أحترم جهودهم الساذجة لصناعة فن كما لو أن العالم الذي يعيشون فيه غير موجود. ألم أبدأ أنا الكتابة عن “الخفاء”، وهو في تلك الحالة شكل واضح وجلي من أشكال الإنكار؟ إنني لا أبحث- بالطبع- عن فنانين لا يزالون يؤمنون بروعة المحاكاة التجريدية أو التشخيصية، بل ينصب اهتمامي على الفنانين القادرين على تحويل الإدراك إلى لغة يكون فيها السياق المحلي مهم، من دون أن يكون مفروضا قسرا.

لا يمكن للمرء أن يحكم على فكرة الجيل هنا، وبالتالي على فكرة المعاصرة، كما يحكم على عالم الفن “المعتاد”. إن الانعزال شبه الدائم والاستقاء العشوائي للمعلومات يجعل المرء يصل إلى تعريف مختلف لفكرة المعاصرة. في العراق، تجد “صدمة الجديد” أحيانا في أعمال لفنانين من عقود مختلفة. لهذا السبب يعد عرض “الجمال غير المرئي” نوعا من السفر عبر الزمن إلى ثلاثة أجيال من الفنانين، كلهم ينتمون إلى الحقبة الزمنية المعاصرة نفسها. أليست المعاصرة في الأغلب الأعم هي ابتكار من أجل سوق الفن أو من أجل غواية الجديد؟ إننا نمدد الزمن بهذا المعرض، ولكننا في الوقت نفسه نعيد تقييم فكرة المحلية في حد ذاتها.

إن كلمة “العولمة” ليست سوى خدعة، بل وإهانة، فيما يخص واقع الفنانين في العراق وفي الكثير من البلدان الأخرى. لكن هل يجعل ذلك هؤلاء الفنانين أقل عالمية؟ على العكس، فإن اختلاط وحبكة أفكار الهوية، والفقدان ، والتفاعل في التعامل، والكفاح من أجل الاستقلال هو ما يجعلهم متميزين. وغياب فرص عرض أعمالهم هي السبب من وراء “الخفاء” الذي وصفته بالأعلى. لكن جهود مؤسسة رؤيا فريدة من نوعها، إذ أن حيز الأنشطة الخاصة بهذه المنظمة غير الحكومية متسع، يشمل الحوار، والمواجهة، والدعم، سعيا لأن ينال الفنانون العراقيون “الظهور” الذي يحتاجون إليه ويستحقونه.

لقد عرفت مؤسسة رؤيا كمنبر احترافي يقدم خدمات للفن والثقافة في العراق انطلاقا من قناعة بأن تزايد الاهتمام بالفن والثقافة قد يذلل المصاعب أمام التسامح والتغيير. إنه إيمان يصعب التمسك به، فبينما أكتب هذه السطور تتعرض مواقع أثرية، وأضرحة مقدسة، وأعمال نفيسة من ثقافات قديمة للتدمير واحدة بعد أخرى نتيجة لأعمال الإرهاب الوحشية التي تمارسها داعش. وأتذكر حين جلسنا نتساءل إن كان بإمكاننا المضي قدما في التجهيز لهذا المعرض في فينيسيا وقد وصلت داعش إلى شمال العراق. لكن الشك سرعان ما تبخر وحلت محله قناعة بأن عرض “الجمال غير المرئي” على جمهور عالمي أصبح أكثر تأثيرا وإلحاحا. إن العرض، وهذا الكتاب، هما استجابة واضحة ضد العنف الموجه للبشر وضد تدمير تراث الحضارات القديمة.

أمام الخلفية الجارية المكونة من حوادث مأساوية، تزداد أهمية الصور الفوتوغرافية التي التقطها لطيف العاني لمواقع أثرية في الخمسينيات والستينيات. في تلك الأيام، كان الفنان يقصد توثيق مجتمع عند لحظة تحول باتجاه العصر الحديث. اليوم تتبدى هذه الصور بوصفها عوامل حاسمة في مواجهة مأساة الدمار وضياع المجد والحضارة. إن أعمال العاني هي شاهد بالأبيض والأسود على مجتمع كما في لمدينة الفاضلة، مجتمع كسحته الآن حماقات الحرب والنظرة اللامنطقية للدين. هذه الأعمال تقف على النقيض من رسوم اليوميات التي أنجزها سلام عطا صبري. إذ يمكننا فهم “رسائل من بغداد” بوصفها حواشي استبطانية تصطدم فيها الظروف المأساوية لبلد مع الدراما الشخصية لفنان يشعر بحتمية إبداع فن في سياق تحدده ظروف معادية للفنون.

تلك الظروف المعادية تتولد، غالبا، خارج البلاد، على أيدي تحالفات أخرى. رباب غزول اختارت أن تعطي الناس صوتا، وهي إذ تفعل ذلك إنما تتأمل في فكرة الجمهور وممثليهم. ومن خلال الإيماءة البسيطة القائمة على تسجيل أصوات مواطنين مجهولين في انجلترا وهم يكررون كلمة لرئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، تفكك الفنانة الأفكار السائدة عن الحقيقة، والذنب، والمسؤولية. أما في عمل حيدر جبار، تصبح الوجوه بكماء عقب عمليات الذبح البشعة. يتأمل الفنان في الجسد الممزق عن طريق صناعة أرشيف من الرؤوس المقطوعة، ضحايا العنف. وتكشف لغته الفنية انبهارا بأعمال بعض من أقرانه الأكبر سنا، لكن الاختلاف يلاحظ في الطريقة التي “يترجم” بها ما عاشه في صورة تمتلك مقومات جاذبية عالمية. كل وحدة تحتضن أجزاء مأساوية من الواقع. وبالرغم من أن القصد لم يكن قط تنظيم عرض يقوم على تيمة الإرهاب وحقيقته المأساوية، فإنني سعيد أيما سعادة أن أرى جمال الأعمال المعروضة وهو يمتد إلى شجاعة الفنانين في تفاعلهم مع واقعهم. وفي هذا الصدد، لا يمكن للمرء إلا أن يقدر جهود آكام شيخ هادي الذي التقط صورا فوتوغرافية، بارعة ورقيقة، لأناس فروا من داعش، حيث تتلوى قطعة من القماش الأسود داخل الصور مثل مشنقة تتوعد ضحاياها، حول الأشخاص الظاهرين في الصور في مأساتهم العارية.

“الجمال غير المرئي” يمنح صوتا لأجيال مختلفة من الفنانين، كلهم أسرى الدمار الذي أصاب البلد. وفي الوقت نفسه، يؤمن كل منهم بقدرة الفنان على اتخاذ موقف، بقدرته على تحمل مسؤولية على نقيض ما تنادي به الأفكار المتشددة حول الجمال المطلق. هؤلاء الفنانون يثبتون أقدامهم الفنية وسط فوضى الفقدان ، والهوية، والذاكرة، والجمال. “الجمال غير المرئي” معرض يهمس بخفة، ويفصح برقة. قبالة الخلفية الكارثية للعراق في سنواته الأخيرة، لا زال ثمة فنانين يمتلكون الشجاعة للاندماج في عمل يستقل فيه الفنان الفرد عن أي شكل من أشكال الأكاديمية، ويعتمد على تأمل عميق لكيفية تفاعل الفن مع المجتمع.

خنت، 10 مارس، 2015