سيسيليا بييري باحث مساعد في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى
اكتشفت أعمال لطيف العاني للمرة الأولى عندما بدأت أبحث في عمارة بغداد الحديثة قبل ما يربو قليلا على عشر سنوات. كنت قد طلبت ثلاثين نسخة من أعماله من المؤسسة العربية للصورة Fondation Arabe pour l’Image في بيروت لكي تساعدني في بحث كنت أجريه على العاصمة الحديثة أثناء توسعها في فترة الانفجارة النفطية التي شهدتها في سبعينيات القرن الماضي. كان الجزء الأكبر من الصور التي عملت عليها آنذاك ـ قبل أن أتعرف على بقية أعمال لطيف العاني ـ عبارة عن صور بالأبيض والأسود قام بتنفيذها مستخدما كاميرا Rolleiflex 6×6، فمنها ما يرجع إلى عام 1950 حينما كان يعمل لحساب شركة النفط العراقية في عهد الملكية، ومنها صور من الجو التقطها سنة 1960 لحساب وزارة الإعلام.
أول ما يبهت الناظر إلى هذه الصور هو ما تنطوي عليه من فن التركيب. ولقد قال المصور الفوتغرافي ـ في حوار حديث ـ إن النتيجة النهائية تكون حاضرة دائما في ذهنه منذ لحظة التقاطه الصور. والحق أن كلَّ صورة تبيِّن ببراعة تامة فن التأطير. ويمكن أن نلمس هذا في عدد هائل من الصور التي تمسرح حرفيا الخط القطري، صور لسدود في كوت، أو على نهر الفرات، ولنصب الحرية لجواد سليم ورفعت الجادرجي في ميدان التحرير ببغداد، أو صورة مسابقة القفز بالزانة في الموصل، أو صورة جسر القارب في نهر دجلة الذي ينقسم إلى عدد من الأسطح المثلثة. في صورة أخرى، لدينا أفق نهري، في مقدمته سياج من خطوط عمودية مقوسة من ثلاث نخلات. ولكن النتيجة أبعد ما تكون عن التكلف، فكل تركيب يضفي كثافة رمزية على العمل المصور، أو الأفق، أو الإيماءة المتحركة.
بقوة فوتغرافيا الأبيض والأسود، ثمة ما يضاف إلى التركيب في هذه الصور من خلال اللعب البنائي بالضوء والظل. وفي ذهني في هذا المقام تلك الأشكال المكعبة، الصغيرة كما في الرسم البنائي، والتي تحدد سمات الصورة الفوتغرافية لضاحية جديدة بازغة بين كثير من الضواحي التي انتشرت على كلتا ضفتي نهر دجلة. وليس غرض هذا التجريد الهندسي غرضا جماليا وحسب. فهو يبرز التكرار المعياري في المكان الصناعي الحديث في الوقت الذي كانت العاصمة فيه تستهل مرحلة التحول إلى حاضرة كبرى، وفي الوقت الذي بات استيعابها للزيادة السكانية الكبيرة أمرا ملحا، شأنه شأن ضرورة توفيرها المناخ الصحي المريح للطبقتين العاملة والوسطى المتوسعتين تماما في ذلك الوقت.
من بين أحدث المباني المقامة في بغداد في ذلك الوقت مبنى بنك الرافدين الذي كان قد أكمله لتوه المعماري البريطاني فيليب هيرست تجسيدا لطليعية أصيلة. للبنك واجهة طويلة تتخذ شكل مقدمة سفينة فيها إيقاع واضح وانسيابي يتحقق من خلال أربع واقيات من الشمس، وقد استغل لطيف العاني تلك الواجهة مرارا، سواء في الصور التي التقطها من الجو لـ”محيط الأسطح المتلاطم” في حي الرصافة التي يبدو البنك وسطها وكأنه حارس قائم أو في تكوين يعزز منظورُه المركزيُّ الصارمُ تجريدَه الجرافيكي.
كان المصور يتعامل مع مهمته التوثيقية بمنتهى الجدية وكان يشعر ـ مثلما قال هو نفسه ـ بإحساس قوي بالمسؤلية، وبأنه مكلف بـ “الحفاظ على كل ما يرآه”. لكن سواء كانت صوره لقطات من الجو لطرق تربط زراعات النخيل بالمناطق السكنية القادمة، أو مناظر المصانع الحديثة بآلاتها المعقدة، أو أسواق بغداد المسقوفة بلوافتها الكهربائية، أو المزارع النموذجية، فقد كانت حداثة العراق في ذلك الوقت أيضا جزءا أصيلا من بين ما توثقه أعماله. حداثة فتيَّة، معتزة بنفسها، رامية إلى الجمع بين العزيمة والإبداع، وتجاوز التوترات المتفجرة في المجتمع العراقي. فحتى فيما قبل ثورة 1958، كان كثير من هذه الصور يستخدم في الوثائق والمناشير الرسمية بهدف تقديم العراق في شبابه، وحيويته، ومبانيه، واستثماراته في مجال التعليم، وإيمانه بدور المرأة، وكل الشعارات التي يؤمن بها البلد الشاب، الثري لا بماضيه وحضارته الغابرة وحسب، بل وبالوعود الكامنة في مستقبله: حداثة الأمس، نموذج لمستقبل العراق؟
هذه صور استثنائية. أولا لأنها توثِّق عراقا لم يعد له وجود، وأيضا لأن أرشيف الوزارة التي كانت هذه الصور جزءا منه قد تعرَّض كله للنهب والتدمير في عام 2003. لذلك فإن ما بقي من الصور هو بمثابة الكنز الوطني الثمين. ولكن أعمال العاني ـ بدلا من أن تكون فرصه للنوستالجيا ـ توفر كنزا حقيقيا من البيانات للعراقيين أنفسهم، وكذلك لمجتمع الباحثين الدولي، وهي ببساطة صور لا مثيل ولا بديل لها من أجل فهم مرحلة جوهرية في بناء العراق الحديث.
لقد حظيت بفرصة استثنائية إذ قابلت لطيف العاني سنة 2013 في بغداد حينما قدمت له نسخة من كتابي “بغداد: العمارة الحديثة والتراث”. يومها مال ذلك الرجل الرقيق الأنيق المتحضر ناحيتي وقال لي “إنها لسعادة عظيمة لي أن أجد من لا يزال حتى هذه اللحظة واقعا في غرام بغداد”.
باريس 15 نوفمبر 2015